الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي مشهد مأساوي فتح سائق حافلة الموظفين بأحد فروع شركة "المقاولون العرب" النار على الموظفين الذين معه؛ فأسقط ستة قتلى، واثنين وعشرين جريحًا! واختلفت الروايات حول القصة وإن اتفقت كلها على أن الدافع هو الانتقام، ما بين قائل: "إن الانتقام هنا من الشركة كَكُل"، وقائل: "إن الانتقام كان موجهًا إلى أفراد بعينهم، وهؤلاء بعضهم"، ومن يقول: "إن الانتقام كان على خلفية شعوره بالاضطهاد في العمل"، وبين قائل: "أنها خلافات شخصية تتعلق بالتنقيب عن الآثار".
لقد بدت الحادثة أشبه برجل قرر الانتحار لضيقٍ ألم به، ولكنه قرر أن يزهق معه أرواح من رآهم متسببين في هذه الضائقة التي ألمت به؛ فقتلهم على رؤوس الأشهاد، ولم يحاول الفرار ولا الهرب!
وأيًا ما كان؛ فإن هذا الحادث يعتبر ناقوس خطر جديد يدق في الناس أن ينتبهوا لما يحدث من تغيرات غير مسبوقة على الجانب الأخلاقي والاجتماعي.
لم يكن هذا هو الناقوس الأول... ولن يكون الأخير.
فقد رأينا وسمعنا في السنوات الأخيرة العجب العجاب...
حوادث تحرش جنسي جماعي في قلب القاهرة...
جرائم جنسية لأطباء مع مريضات...
جرائم جنسية لمدرسين مع تلميذات...
حوادث تعذيب علني في وضح النهار دون مبرر ظاهر...
حوادث قتل جماعي متكررة على خلافات تافهة...
حوادث انتحار... هذا من أجل فسخه خطبة، وتلك من أجل عنوسة...
والقائمة طويلة، ولكن يبدو أن معظم آلات الاستقبال عند المعنيين بالأمر تكاد تكون معطلة!
بل تكاد تجزم أن بعض دوائر العمل الإعلامي المشبوهة تبدو مستمتعة بما يحدث، وأن بعض دكاكين حقوق الإنسان تعتبر هذه الحوادث "سبوبة" جيدة؛ لإصدار البيانات والظهور على الفضائيات؛ ليجتروا كلامًا مكررًا حول الحريات والتغيير مما لا يسمعه غيرهم، وإنما غاية ما فيه أنه يوفر لصاحبه وجاهة بين المثقفين، ويعطيه حصانة أمريكة أو أوروبية على أقل الأحوال.
أما دوائر العمل الرسمي.. فغير مشغولة بالنظرة الشاملة، فنظرة قطاع التعليم صارت منصبة على مواعيد الحضور والانصراف، وعدد أجهزة الحاسوب في المدرسة، وعدد الحمامات ونوع السيراميك دون البحث عن دور التربية الغائب في المدارس، والذي يُراد له أن يكون أكثر تغييبًا بسحب رصيد مادة التربية الدينية -الذي صار على المكشوف أصلاً منذ زمن- لصالح المادة المسخ التي يريدون أن يُحلوها مكانها أو تكون مزاحمة لها "مادة الأخلاق"، هذا في المدارس التي تحظى بالزيارات والكاميرات، وأما غيرها فجمعت "حَشفـًا وسوء كِيلة" كما يقولون!
وقِطاع السياحة لا همَّ له إلا زيادة عائد السياحة ولو على حساب فتنة الناس في دينهم عن طريق الأفواج السياحية الماجنة، وقطاعات كثيرة يعتبرون أن الأمور على ما يرام إذا ما تم السيطرة على حركة الصحوة الإسلامية كمًا وكيفًا!
والواقع: أن الحوادث التي تحدث بين الحين والأخر تؤكد أننا نتجه إلى الأسوإ فيما يتعلق بمنظومة القِيم التي تحكم المجتمع؛ وذلك أن كل مجتمع له منظومة أخلاق وقيم يعتمد استقرار المجتمع على استقرارها، وغني عن الذكر أن نقول: إنه لا سعادة في الدنيا والآخرة إلا في دين الله -تعالى-، ولكن من الممكن أن تحقق بعض المجتمعات استقرارًا ظاهريًا بنظام مخالف لشرع الله؛ بيد أنه سوف يَخرج أناس مشوهون إذا ما قورنوا بالفطرة السوية التي خلق الله الناس عليها.
ولنضرب على ذلك مثلاً بالمجتمعات التي كانت تتعامل مع المرأة كسلعة تباع وتشترى، وهي الأفكار التي كانت سائدة في أوروبا وغيرها في العصور الوسطى، فإذا وجدت التربية الاجتماعية التي تلزم النساء بالرضا بهذا الوضع؛ استمر وضع هذا المجتمع مع ما فيه من ظلم للمرأة، والذي يعود على الرجل بالظلم لفقده للسكن والرحمة، ولكنه من الممكن أن يستمر إلى وقت ما.
فإذا وقع اتجاه تمرد من النساء على هذا الوضع دون أن تَحل منظومة قيم جديدة يتراضى عليها الرجال والنساء؛ انفرط نظم عقد المجتمع، وانفكت عراه.. وهكذا العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الغني والفقير، وبين الآباء والأبناء، وبين الرئيس والمرؤوس.
فإذا نظرنا إلى واقع المجتمع المصري وجدنا أن منظومة قيمه مهلهلة؛ حيث كانت قيمه في يوم من الأيام هي أخلاق الإسلام وقيمه، ثم علاها الصدأ، ودخلت عليها كثير من التصورات والموروثات الشعبية، حتى تحولت قوامة الرجل على المرأة إلى نوع من ظلم المرأة، وعودة إلى بعض عادات الجاهلية، وهو ما نتج عنه محاولات تمرد من المرأة، واستجابتها لإغواء شياطين الجن والإنس؛ للتمرد على بعض ما يُلزمها به أولياؤها كالحجاب، وإن كان لزومه شرعيًا لا عرفيًا.
ومن جهة المعاملات المالية: كانت الأمانة هي الأصل؛ لأنها من الدين، ثم تحولت إلى سمعة طيبة يسعى الإنسان إلي تحصيلها، ومن ثمَّ صح معها أن يضحي بها إذا لم يكن في حاجة إليها، كما قالوا في أمثالهم: "يا لي رايح كتر من الفضايح"!
وقل مثل هذا في تعامل القوي مع الضعيف، وفي غيرها من المجالات التي تتشابك فيها علاقات المجتمع.
ثم حدث الانفتاح على العالم الغربي بكل ما فيه من مساوئ، وما في مجتمعه من أخلاق رذيلة تجعل مجتمعاتهم مجتمعات قلقة، ثم ازداد الطين بلة عندما دخلت الفضائيات كل بيت، وصارت تتسابق في نقل الواقع الغربي، وفي الدعوة إلى تطبيقه.
وافتتح التليفزيون الرسمي الطريق، وضج الدعاة إلى الله منه ومن إفساده، بل حذر منه علماء التربية والاجتماع، ولكن لا حياة لمن تنادي؛ لا التلفزيون أغلق أبوابه، ولا حتى رشَّد ما يقدمه، ولا الناس استطاعوا مقاومة سحره -إلا من رحم ربي-، ووُجدت في التليفزيون رقابة علا سقفها واتسع لتقديم مشاهد الحب والغرام، والأحضان والقبلات، ومشاهد السخرية من الآباء والمعلمين! وشوَّقت المشاهد تحت مسمى التحذير إلى اللذة المحرمة في علب الليل، وأماكن تعاطي المخدرات.
ثم جاءت القنوات الفضائية فهدمت سقف الرقابة تمامًا، ولم تمنع إلا ما يمنعه الغرب عن مشاهديه في قنواته العامة، وجاءتنا قناة "ساويرس" بشعار: "حق المشاهد في أن يرى الفيلم الأجنبي بلا حذف"، ومن قبله نقلت قنوات الفسق العربية برامج: "ستار أكاديمي" وغيرها من نقل الواقع الغربي العفن.
وفي ظل أزمات اقتصادية طاحنة تمكِّن المشاهد البسيط -حتى سكان المقابر- من الاشتراك في "الوصلة" ليحصل على حقه في مشاهدة أفلام غير محذوفة؛ يرى فيها كيف يقتل الإنسان الغربي المادي نفسه عند أول مصيبة تلم به، ويرى كيف يتلذذ المجرم الغربي بالانتقام ممن أساء إليه أو حتى من لم يسئْ، يرى البطل وقد دخل مدرسته يوم كان طفلاً ليفتح النيران على أطفالها؛ لأن مدرسته قد عاقبته في صغره.
يرى فيها البطل الذي لا يشعر بلذة الجنس مع زوجته ولا مع عشيقاته، ولكن لابد أن يصطاد الضحايا، ويعذبهن ويغتصبهن.
فإذا ما غيّر التردد على القنوات الناطقة بالعربية وجد مغنيات وراقصات ومذيعات، وقد ذاب الفصل بين الثلاث فلا تكاد تميز إحداهن عن الأخرى؛ مما يزيده شبقًا وحسرة، ويسمع أخبارًا عمن يتقاضون في الساعة ما يتقاضاه هو في الشهر، وربما في السنة، وليس لديهم من مزية إلا الفسق والفجور!
ورأى وسمع الملايين التي تُدفع إلى لاعبي الكرة، وشاهد الإعلانات التي تعتبر الحياة في مدينة ليس بها ملاعب للجولف حياة مملة!
والمُشاهِد بين قادر على هذا أو على شيء منه؛ فيزداد بهذه المشاهدات عطشًا ونهمًا؛ فيدوس على كل القيم في سبيل شهوة المال، ثم يعيد إنفاقها على ملذاته، وربما تسابق ذوو الأموال على شراء الموديلات الغنائية الراقصة؛ ليضم كل منهم بعضًا منهن إلى مقتنياته، ومن عجز عن الشراء واكتفى بالإيجار سجل هذه الإجارة على أقراص مدمجة؛ من أجل الفخر والمجاهرة بالمعصية!
وصار مذيعو الفضائيات يوجهون بعض المنتسبين إلى العلم؛ فيجبرونهم على الإفتاء بما يوافق هواهم الغربي، وإلا سخروا منهم، وشهروا بهم على رؤوس الأشهاد.
ومن ثمَّ صار المدرس والطبيب يسمع فتاوى بجواز الخلوة بالتلميذة والمريضة، ثم يكون الشيطان ثالثهما؛ مصداقـًا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى وإن كذب بالخبر النبوي -بل بالواقع المشهود- مَن كذَّب، ثم تكون الجريمة؛ فالقرص المدمج من أجل الفخر، ثم العار والفضيحة.
المشهد مليء بالصور الكئيبة المحزنة، وإن كان على الجانب الآخر تتزايد الصور المشرقة في الاتجاه الآخر، ولكن هذه الأخلاق المهترئة نار تأكل المجتمعات التي تعيش فيها.
إن القضية أكبر من أن يُدير لها الجميع ظهره؛ فلا الذي ربى أولاده على أخلاق الإسلام بمأمن على نفسه وأهله من أن يفتح رجل ثائر من شيء ما عليهم النار عشوائيًا، أو أن يقعوا تحت براثن ذئب بشري قضى نهمه ممن وقعوا فريسة الخلوة معه فأراد أن يوسع نطاق نشاطه مع تلميذات الفصل، ولا يأمن على أولاده مِن عامة مَن خرجن إلى الطرقات يبالغن في تقليد مغنيات الفيديو كليب في الخلق والمشية، لا سيما وأن الفيديو كليب يمزج الواقع بالأغنية في هيئة عجيبة نتاجها ما تراه أمامك في شوارع المسلمين، ولا تأمن أي جهة على استقرار النظام وبقاء عراه في ظل حالة الانفلات التي تتصاعد.
إننا لا نفشي سرًا إذا قلنا: إن الحل يكمن في عودة الجميع إلى الإسلام؛ حكامًا ومحكومين، إعلامًا وتعليمًا، فإذا كان البعض لا يرى أن هذا مما يمليه عليه دينه؛ فليعتبر أن هذا مما تمليه عليه حاجته إلى أن يعيش في بلد آمن.
إن العلاج يكمن في شيء مجمل واحد، هو: الإيمان؛ فالأمن والإيمان قرينان:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، فالأمن حكر على المؤمنين، وأما الكفار فلا يحصلون على الأمن إلا بمقدار ما يوافقون فيه دين الله والعقل والفطرة.
وإلا فكل ما نشتكي منه مِن أعراض يوجد أضعاف أضعافه في الغرب، ولكنهم يتعايشون معه؛ لإدراكهم أنه لا بديل متاح في حضارتهم إلا هذا، ومع هذا فهم ينفقون الأموال الطائلة على نظم الأمن والحراسة والمراقبة، مما لا يتيسر مثله في بلاد المسلمين.
والإيمان كما بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً» (رواه مسلم)، ولكل منها أثره في الأمن.
وإليك أثر طائفة من شُعب الإيمان في تحقيق الأمن المفقود:
الحب: من وجد الله -تعالى- فقد استغنى عن كل شيء؛ فمن أحب الله لم يفرح كثيرًا بما أوتي، ولم يحزن كثيرًا على ما فقد، كما في الدعاء الذي روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في رحلة الطائف: «اللَّهُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلا أُبَالِي».
والحب يجعل العبد يطيع ربه حتى في مخالفة هوى نفسه؛ مما يمنعه من الاستسلام لدواعي اليأس والقنوت، والظلم والتكبر، وشهوة الانتقام.
التوكل: هو البلسم الذي يهوِّن على العبد ما يلاقيه من مصائب في الدنيا؛ سواء على ما كان قدريًا محضًا، أو ما كان بأيدي الغير؛ فبالتوكل يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
الرجاء: الرجاء في انفراج الهم يجعله يسرًا على صاحبه: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6]، وبالرجاء لا يقع العبد فريسة لليأس، فيقع في قتل نفسه أو قتل غريمه، لا سيما إذا ضم معه الخوف مِنْ عواقب هذه الذنوب عند الله.
ورجاء ثواب الآخرة مما يجعل الدنيا بأسرها لا تساوي عند صاحبها شيئًا، وهو يعلم أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وهو يقرأ قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن لقي من أصحابه أشد أنواع العذاب: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ؛ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ» (رواه الحاكم، وصححه الألباني).
الخوف: يخاف معه العبد أن يستجيب لدواعي شهواته المحرمة، فيتعرض لسخط الله -عز وجل-، ومِن ثمَّ لا يمكن لمن عَظـُم في قلبه الخوف من الله ومِن عذابه أن يقدم على قتل نفسه، وهو يعلم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» (متفق عليه).
وكيف يمكن أن يكون الحل عنده قتل غريمه وهو يعلم قوله -تعالى-: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:92]؟!
المراقبة: وهي عبادة تمنع صاحبها من اقتناص شيء محرم من شهوة محرمة من طفلة ساذجة، أو مال عام لم يضبطه القائمون عليه؛ لأنه يعلم أنه إن لم يكن يَرى الله فإنه يراه.
كظم الغيظ: وهي عبادة ناتجة من حب الله والخوف منه ومراقبته، فلا يترك نفسه تحركه عند الغضب، بل لا ينتصر لنفسه إلا بمقدار ما يسمح به الشرع، وربما زاد حبه لله فقرر العفو عمَّن ظلمه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134].
ستر العورة: ومَن عَظـُم لله حبُّها، وعَظـُمَ منه خوفـُها؛ لن تعرض نفسها وتكون فتنة للشباب لتنال استحسانهم؛ فتكون من «المميلات المائلات» كما وصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (رواه مسلم).
عدم التسلط على رقاب العباد: ومَن عَظـُم خوفه من الله وعظمت مراقبته له؛ لن تدفعه قدرته على التسلط على رقاب العباد أو تعذيبهم وهو يعلم أن ذلكم يجعله من أهل النار، وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصنفين -المتبرجات وضاربي البشر- في سياق واحد؛ مما يدل على أن هاتين آفتان عظيمتان متى ابتلي بهما مجتمع؛ فقد تعرض للتفكك والانحلال، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» (رواه مسلم).
معرفة حق الله في المال: وهو مما يمنع أصحاب الأموال من الظلم والتكسب من حرام عن طريق الربا، والميسر، وأكل حق الأجير، وهو مما جاء فيه الوعيد الشديد.
وعدم السفاهة في إنفاق المال في حرام: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5].
وفي الجملة: فإن إحياء الدعوة إلى الإيمان بمعانيه الشاملة هو الطريق الوحيد لعودة الأمن المفقود.
وإن تطبيق الشرع بمعناه الشامل هو المسلك الوحيد من المعيشة الضنك: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
وإن إحياء سنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الطريقة المُثلى لإيقاف العقاب الجماعي الذي يصيب المجتمعات التي تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ» (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).
وإذا ما تركنا هذه الشعيرة؛ فلن يقتصر الأمر على حافلة واحدة يقتتل أصحابها؛ بل إن ركاب سفينة المجتمع ككل سوف يستمرون في هذا الهرج؛ فريق يقتتل بغضبه، وفريق يخرق السفينة بسفهه، وليس منهم رجل رشيد!
كما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك المثل بقوله: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا؛ فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» (رواه البخاري).
نسأل الله أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
7-شعبان-1431هـ - 18-يوليو-2010 م